إن الحديث عن صناعة التفكير يجعل القارئ متشوفًا له؛ بحثًا عن التطوير والرقي، لاسيما وأن التفكير عملية فطرية، حيث إن الناس كلهم يفكرون، ولكن أفكارهم تختلف، فبعضهم يفكر في عاجل لا يفيد أو يفيد، وبعضهم يفكر في اللهو واللعب، وبعضهم يفكر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله، وبعضهم يفكر في الشر، وبعضهم يفكر في الخير وهكذا..
فمجاري التفكير غير محصورة وثمراته غير متناهية كما ذكر ذلك الغزالي(1)، ولذلك فإن هذا التفكير المتنوع هو ما نحتاج فيه إلى ضبط وصناعة، لكن ذلك لا يتحقق إلا إذا تخلينا عن عائقين هما من أكبر عوائق صناعة التفكير:
العائق الأول: البيئة.
وذلك إن كانت لديها مفاهيم غير مقبولة كما هو الواقع، وإن كانت تختلف كثرةً وقلةً من مكان إلى آخر. فالبيئة تجعل الفرد مقيدًا بهذا المحيط مما يؤثر في صناعة تفكيره.
العائق الثاني: التحزب.
سواء كان ذلك التحزب لقبيلة أو مؤسسة أو غيرهما، فإن التحزب يخلق إشكالًا لدى الفرد في صناعته للتفكير بموضوعية من حيث ضغط الحزب عليه.
وإذا استطاع الفرد أن يتجاوز هذين العائقين فإنه يستطيع أن يصنع تفكيره نحو الإيجابية التي ترتبط دومًا بالشرع، فإن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تقر أي سلبية، وفي نفس الوقت لا يمكن أن ترفض أي إيجابية، لكن لا يعني هذا أن هناك إطلاق لمساحة التفكير من ذات الشخص وتقييم الإيجابي من عدمه دون الاستناد إلى الشرع، لأن للتفكير حدودًا تحده، وهذه نتيجة طبيعية للعقل البشري القاصر.
وقد ذكر الغزالي بأن التفكير في ذات الله ممنوع؛ لأن العقول- كما ذكر- تتحير فيه (2)، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله) (3)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» (4)، فاللجوء إلى الله في دفع شر الشيطان ووسوسته عنه هو الذي أرشد له الشرع كما قال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} (5).
وإنما مُنع التفكير في مثل ذلك، لأن الاسترسال فيه لا يزيد المرء إلا حيرة وضلالا، فلا يصفو له العيش وهو لم يمتثل منهج الشريعة، لأن التسليم بالشرع هو عبادة في حد ذاته، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قد بنوا حياتهم على التسليم، ولا يعني ذلك إهمال التفكير كما أهمل الدليلَ العقلي أفراد منتسبون إلى السلف حينما رأوا غلو المتكلمين في العقل وتعظيمهم له فجاءتهم ردة فعل من ذلك، ولا يصح أيضا في المقابل تعظيم العقل وإهمال التسليم كما فعل ذلك المتكلمون، فقد جعلوا العقل مصدر التلقي الأساسي عندهم، فالاهتمام بالتسليم وبناء الحياة عليه لا يعني الإعراض عن العقل.
فالمنهج السلفي المتقيد بالرؤية الشرعية هو المنهج الوحيد الذي يصنع التفكير بطريقة إيجابية تعود بالنفع على الفرد في الدنيا والآخرة، وتحقق له السعادة المنشودة، وتضبط مسيرته من التناقض والاضطراب. ولا يعني هذا إقرار ما صدر من أفراد ينتسبون إلى السلف حينما أهملوا العقل، لأن الحديث عن السلف هو حديث عن المنهج وليس حديثًا عن أفراد قد يخطئون في جانب ويصيبون في جوانب، وإنما هو منهج يعظم القرآن والسنة ويرتبط بهما نظريا وعمليا
وقد اهتم شيخ الإسلام ابن تيمية السلفي بالعقل من خلال استخدامه كمنهج في البحث والرد على المخالفين إلى جانب تعظيم النصوص الشرعية الذي هو أبرز سمة في مؤلفاته.. هذا، وإن الشريعة لم تغلق مجال صناعة التفكير، فقد أطلقت مساحة صناعته للفرد في قضايا كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي خالطته شبهة الإبل الجرب: «لا عدوى»، فقال أعرابي: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول؟» (6)، وهذا السؤال هو فتح لمساحة التفكير حتى يصنعه الفرد في ظل رؤية شرعية تقول له: إن الله هو الذي أجرب الأول من غير عدوى، وهذا التفكير سيقف عند هذه الرؤية التي تمده بزيادة الإيمان بالله والتوكل عليه.
فالحقيقة التي لابد أن تُدرَك هي أن الفرد يجب أن يستند إلى الثوابت الشرعية وهو يمارس عملية التفكير، لأن الفرد المسلم يعلم يقينًا بأن الشريعة الغراء لم تنه عن شيء إلا فيه مفسدة ولم تأمر بشيء إلا فيه منفعة، ولا ينكر هذا إلا منافق مغرض زنديق يعتبر الاستناد إلى الثوابت الشرعية قيدًا على الفكر، وهذا لأنه لا يرى في الشريعة ما نراه نحن من أنها تحث على القيم الإنسانية العليا التي تحث الخبرات البشرية على ضرورة التمسك بهذه القيم وأشهرها (الحق والخير والجمال)، وإننا ننظر إلى من أبعد ثوابت الشريعة بنظرة إشفاق، لأن هذه الثوابت هي تسديد للعقل وضبط له في الحقيقة.
ولا يعني هذا إلغاء التفكير من خلال الاستناد إلى الثوابت، لأن الشريعة قد أعطت العلماء الشرعيين مجالات لصناعة التفكير، من خلال إعمال التفكير فيما لا نص فيه ولا إجماع، وذلك عن طريق الاجتهاد وضوابطه، وليس بالاجتهاد الفوضوي الذي يفضي إلى الإحداث في الدين. هذه إطلالة على صناعة التفكير برؤية شرعية وفق منهج السلف الصالح، ولعل إن كان في الوقت متسع سأفصل ما ورد في هذه الإطلالة حتى تأخذ حقها بدراسة أوسع.
--------------------------------
(1) انظر: إتحاف السادة المتقين 10/ 170.
(2) انظر: إتحاف السادة المتقين 10/ 180.
(3) أخرجه البخاري موقوفًا في كتاب العلم 1/ 41.
(4) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق3/ 92.
(5) سورة الأعراف آية 200.
(6) أخرجه البخاري في كتاب الطب 7/ 31.
الكاتب: د. سراج الرشود.
المصدر: موقع المسلم.